القصة كاملة … استشهاد سالم بن علي جابر

القصة كاملة

استشهاد سالم بن علي جابر

  لم يكن بد من الذهاب إلى خشامر (قرية آل بن علي جابر) , للقيام بواجب التعزية لأسرة أخينا الأستاذ الشهيد سالم أحمد بن علي جابر وسائر آل بن علي جابر , فالأخ سالم رحمه الله منا بالمحل الرفيع .

     انطلقت في طائفة من الدعاة وهم السيد محمد محسن البيتي , والشيخ يوسف أحمد المحمدي , والأستاذ منصور أحمد باوادي والأستاذ حسين علي بن محفوظ , والأخ الفاضل سالم علي الديني , وابني مجاهد .

     حملنا معنا تحيات وتعازي أهل المكلا كلهم خصوصا شيخنا العلامة أحمد بن حسن المعلم حفظه الله . انطلقت بنا السيارة تجوب الهضاب وتقطع الوديان حتى أناخت بدار العز (خشامر) بالقرب من منطقة ” العقاد ” التابعة للقطن .

     لم يكن هذا هو أول العهد بـ”خشامر” فقد زرتها نحو عشر مرات , فخشامر بلد نصرة التوحيد والسنة منذ عهد قديم .

     تلقانا في مدخل القرية ابننا الكريم وتلميذنا النبيه وليد الحامدي , أكثر الشباب ارتباطا بالأستاذ الشهيد في السنوات الأخيرة , وهو صهر آل بن علي جابر , طار من فوة إلى خشامر عندما فجع بمقتل أستاذه الجليل , تلقانا ومجموعة من شباب تاربة , وفي ذلك المكان الذي تلقانا فيه أشار بيده نحو شمائلنا وقال : تلك السيارة التي أرسلت عليها الصواريخ , وذلك هو مسرح الجريمة , نظرنا فإذا سيارة مفحمة مهشمة بقرب خرابة في طرف القرية بيننا وبينها ساحة هي مناخ إبل , علمنا فيما بعد أن ناقة من تلك الإبل نفقت في الحادث , ثم انطلقنا نحو الجامع ؛ لأنه كان قد حان وقت صلاة العشاء .

    بعد الصلاة مباشرة قام السيد البيتي ليلقي على مسامع أهل خشامر التعزية , وكان المسجد قد اكتظ بالكثير من الشباب مع كوكبة من المشايخ والدعاة الذين جاؤا من سيؤن وتريم وتاربة وغيرها من المناطق  للتعزية فيهم الشيخ عبدالله باحميد والشيخ أكرم عصبان والشيخ طالب الكثيري  . ثم جاء دوري لألقي بعد التعزية كلمة لابد منها عن الموت والحياة والابتلاء والصبر , جعلت من صدر “سورة الملك ” منطلقا لها.

     وجاء دور الترحيب والتحايا وكان الشيخ سيف بن علي جابر هو السبّاق لذلك كعادته لا سيما مع طلبة العلم , وأقبل عليّ شيخ كبير أبيض اللحية , فأخذني بالأعناق , وشدني إليه بحراره , قال الشيخ سيف : هذا والد الأستاذ سالم رحمه الله . وتذكرته بعد , كنت قد قابلته من قبل مقابلة عابرة . كانت مشاعر الشيخ أحمد (أبي الشهيد) خليط من الحزن والفرح , لا زال الحزن باد على وجهه وحق له , وهو مبتهج بمشاركة أصحاب سالم له أحزانه وأتراحه .

     قادنا بعد ذلك الشيخ سيف بن علي جابر إلى بيت والد الشهيد وليد بن علي جابر حيث كان جلوسنا .

     جلست بجوار العم أحمد والد الشهيد سالم , بيني وبينه الشيخ سيف , سألنا عن الحدث فقال الشيخ سيف : خطب الأستاذ سالم في الجمعة المنصرمة وفي آخر الخطبة تعرض للقاعدة في كلام عابر , لم يكن من صلب الخطبة , فجاءه اثنان وطلبا مناقشته وهو سهل المعشر , لين الجانب , لا يتردد في خير , وخرج معه الأخ وليد عبدالله وهو عسكري من أبنائنا , ثم سمعنا صوت الانفجارات فهُرِع الناس إلى المكان , عند سقوط أول صاروخ , وما إن وصلوا إلى البقعة التي تشرف على الساحة حتى توقفوا ورجعوا القهقرى فقد توالى إرسال الصواريخ , وملأت الشظايا كل بقعة , وعزف الرصاص الذي في كان السيارة سمفونية الموت , أرغمته حرارة اللهب المتقد أن يفارق بيوته الصغيرة لينشر رعبا ويبني سياجا يمنع من كل من تسول له نفسه أن يقترب , لكن ما إن خفَت ذلك الصوت حتى انطلقت أقدام الرجال تسابق الريح , فرأوا منظرا مهولا , وجدوا أشلاء ممزعة , وأجسادا ممزقة , ورؤوسا مقطعة , أما الوجوه فلم تبق وجوه , إلا واحدا بقيت معالم وجهه .

     قال سيف : قمنا بتوثيق المشهد وتصوير الجثث , حتى يتعرف عليها ذووها , وأخذنا ما بقي من الأجساد فوضعناه في الأكفان , وحملناها إلى مغسلة موتى مكيّفة حتى الصباح لنجمع إليها في الصباح ما تناثر من أجزاء وأشلاء , وفعلا وجدنا صبيحة يوم الخميس أجزاء من اللحم المتناثر هنا وهناك . ورأينا موضع بعض الصواريخ ليس بينه وبين البيوت إلا نحو ستة أمتار, وقد وصلت الشظايا إلى بعض البيوت , وتهشم بعض زجاج المسجد من جراء هذه الضربة العنيفة . وأقول : إنها لجريمة نكراء شنيعة , وطريقة وحشية للقتل وبشعة لا تقترفها الوحوش الضارية , هذه هي حقوق الإنسان المسلم عند الولايات المتحدة الأمريكية , حقا نحن عندها أحقر من الحشرة الضارة التي تداس بالقدم .

     ثم جاء دور العم أحمد ليروي لنا مجريات الحدث كما رآها , وهذا ملخصها :

     قال العم أحمد : كان ابني سالم قد عزم على المكلا  وطلب من زوجته أن تودع أهلها , وتهيأ شأنها للسفر صبيحة يوم الخميس , أما هو فذهب  ليتغدى ويظل عند شيخه وأستاذه سيف , وكانت الطائرات تحلق في سماء المنطقة منذ العصر , نسمع صوتا ولا نرى جسما , ثم لما كان بعد صلاة المغرب جاءني إلى البيت اثنان معهما ثالث من أهل المنطقة يسألون عن سالم . فقلت : ليس موجودا , وقلت على العادة : تفضلوا ارحبوا (على الرحب) , سيأتي سالم , فقالوا : لا , سنبحث عنه . ولم يقع في خاطري شيء .

     قم لما كان بعد العاشرة ليلا كنت وزوجي في مثل الريم الصغير ( سطح) , فإذا بصوت الطائرة يتصاعد , فقلت : هذه الطائرة أزعجتنا منذ العصر , فما بالها؟ فما أنهيت كلامي حتى خرج وميض من الطائرة , ووقع الصاروخ في الأرض كالصاعقة وأغمي على أم سالم من هول ما سمعت , فنهضت لأخر فمنعني من في البيت , ثم انهالت الصواريخ على المنطقة , واهتزت البلاد , والقلب مشطون بين زوجتي التي صرعت وما يحدث في المنطقة , ثم سمعت زخات الرصاص , فقلت : لعل شبابنا اشتبكوا مع هؤلاء المهاجمين , لم أطق صبرا فخرجت ولم يتبين لي بعد حال أم سالم , فوجدت الناس قد أخذوا الجثث والأشلاء ووضعوها في الأكفان , وبينما أنا بين القوم قرب مني بعض الرجال يريد أن يهئ نفسي لاستقبال الفاجعة بسالم فقال لي : أين سالم لم نره مع الناس وسيارته واقفة هناك ؟ فقلت : سالم منذ الصباح ذهب إلى سيف ولعله هنا أو هناك , ولم يقع في خاطري شيء , ثم قالوا لي : أين سالم ليست عادته أن يتأخر إلى هذه الساعة ؟ فقلت : صحيح , ولكن ما أدري . فقالوا : لا يكون مع هؤلاء القتلى ! ثم قالوا : الق نظرة على الجثث , سبحان الله! ثم أخذوا يفتحون لي الأكفان الواحد تلو الآخر بدأوا بأبعدها , وكلما فتحوا كفنا قلت : لا ما هو سالم , حتى جاؤا فتحوا الكفن الذي فيه سالم , وليس للجثة وجه فقلبوه على جنبه فإذا جزء من الجبين واللحية , فقلت : أما هذا فيمكن يمكن أن يكون سالم , ووالله وقفت لساني عن النطق وبهتت , فجروني وقالوا صراحة : عظم الله أجرك في سالم فاصبر واحتسب شهيد شهيد , فلما سمعت هذه الكلمة نزل علي من الصبر ما لا يعلمه إلا الله , فأردت أن أذهب إلى البيت وتذكرت ما زوجتي فيه , فقالوا : لا , لا تذهب أنت يذهب سيف وغيره , فذهبوا فوجدوا أم سالم قد صحت وهي منتظرة ومنزعجة قلبها يرف , فأخبروها وذهبتُ خلفهم لأخفف عنها …

هكذا نزلت الفاجعة على آل بن علي جابر و وهي فاجعة متسلسلة بدأت أولى حلقاتها بالضربة التي كانت في المعجلة , وقد أنكرنا يومها في مقال بعنوان ” ابنوا سياجا من العدل “

تنبأنا فيه بكارثة على اليمن وأهله , وهاهي اليوم فصول الكارثة تمثل على أرض الواقع فصلا فصلا , فهل من وقفة لنحفظ دماءنا ودماء أبنائنا وأهلينا ونوقف هذه المسرحية الهزلية قبل أن تنسج خيوط مكرها الأخيرة , وتنزل علينا قارعة فلا نقدر معها على شيء؟

لقد جلس معنا الشيخ عبدالله شيخ آل بن علي جابر وهو مجتهد في المطالبة بحق أبنائه وحق أهل المنطقة , ومعه كل أهل منطقة العقاد وضواحيها , وهو يطالب كل أهل حضرموت بالوقوف معهم ؛ لأن القضية عامة لا خاصة , فهل سيقف الحضارمة وقفة جادة هذه المرة ؟

أبو مجاهد صالح بن محمد باكرمان

                                                                                                                                         14 /10 / 1433 هـ

                                                                                                                                                1 /9 /2012 م

زر الذهاب إلى الأعلى