هل حضرموت من اليمن

هل حضرموت من اليمن

ذكرني هذا السؤال بصورة مقابلة لهذا الموقف تماما، فقبل سنوات ليست بالبعيدة قرأت في إحدى جرائد حضرموت مقالا ينقد فيه كاتبه ما رآه في بعض الوثائق الحديثة لأراضي وادي فلك حيث كتب في الوثيقة بدلا عن وادي فلك “سائلة فلك”، وكأننا في صنعاء، هكذا تتدخل السياسة حتى في مصطلحات البلاد، واليوم لأننا نتبنى مواقف سياسية معينة نريد أن نغير التاريخ والجغرافيا، وإذا كان هذا قبل التمكين، فما الذي سيحدث لو أن الله عز وجل منّ علينا نحن الحضارمة بالتمكين وأخذ الحقوق؟ هل تريدون منا أن نتنصل من يمنيتنا، ونتنزه عن المزايا التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم تاجا على رؤوس اليمنيين؟

إننا متمسكون تمام التمسك بحقوق حضرموت، ومؤمنون أشد الإيمان بخصائص حضرموت والحضارمة، فحضرموت جزء متميز من أجزاء اليمن منذ زمن بعيد، أما أن يقال: إن حضرموت ليست من اليمن فهذا الذي لا نستطع أن نبلعه.

سمعت مرة أحد المتحمسين يستدل بحديث: «حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ» على فضل حضرموت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خصها بالذكر! وعلى هذا فصنعاء أفضل من حضرموت؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خصها بالذكر كذلك وذكرها أولا! مع أن هذا مجرد مثال على البُعد فبين صنعاء وحضرموت مسافة ومفازة وأهل فيد. والشيء الآخر الذي استنبطه ذلك المتحدث من الحديث آنف الذكر هو أن حضرموت ليست من اليمن! ويطول عجب المرء عند هذا الاستنباط المذهل الذي لم يسبق إليه! فلا أدري ما وجه الدلالة فيه، فاليمن لم تذكر البتة في الحديث، فليس في الحديث نفي أن تكون حضرموت من اليمن ولا إثبات ذلك، وأما صنعاء فليست هي اليمن، وإنما هي مدينة من مدنه, فهل يعتقد هذا المستنبط بأن الربط بين مدينتين بـ”من” و”إلى” يدل على أنهما من بلدتين لا يجوز أن يجمعهما اسم واحد؟ حسبي هذا عن الاستطراد.

ومن عجب أن يستدل آخر على أن حضرموت ليست من اليمن بقيام دول كثيرة مستقلة في حضرموت! وعلى هذا فلقائل أن يقول: إن الشحر ليست من حضرموت؛ لأنها قد قامت بها دول مستقلة من “دولة آل إقبال “إلى “دولة آل بريك” ودوعن ليس من حضرموت؛ لأنه قد قامت فيه دول مستقلة مثل: “دولة آل فارس النهديين” و” دولة آل العمودي” و..و..إلخ.

وآخرون يستدلون ببعض الألفاظ الموهمة المذكورة في كتب التاريخ ونحوها، مثل عطف حضرموت على اليمن ونحو ذلك، وليس في ذلك دلالة فلم يزل العرب وغيرهم يعطفون الخاص على العام والعام على الخاص، وفي أسماء البلدان والمناطق خاصة يأتي كثيرا العموم والخصوص، ففي حضرموت نفسها نقول:” خرجنا من المكلا إلى حضرموت ” و” الدواعن مشهورون بالتجارة والحضارم مشهورون بالبناء “، فهل يستدل بهذا على أن أهل المكلا ودوعن ليسوا من الحضارمة؟

وبعد هذا التقديم تعالوا لنقرأ شيئا مما صرح به علماء الأمة من فقهاء ومفسرين وأهل تاريخ وأدب وغيرهم، لنقرأ طرفا من صريح كلامهم بأن حضرموت من اليمن:

ولنبدأ بالصحابة من أهل حضرموت:

فعَنِ الأَشْعَثِ بن قَيْسٍ رضي الله عنه: «أن رَجُلاً من كِنْدَةَ وَرَجُلاً من حَضْرَمَوْتَ اخْتَصَمَا إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في أَرْضٍ بِالْيَمَنِ فقال الحضرمي: يا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِى اغْتَصَبَهَا هذا وَأَبُوهُ، فقال الكندي: يا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضِى وَرِثْتُهَا من أَبِى، فقال الحضرمي: يا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَحْلِفْهُ، إنه ما يَعْلَمُ أنها أَرْضِى وَأَرْضُ والدي والذي اغْتَصَبَهَا أَبُوهُ، فَتَهَيَّأَ الكندي لِلْيَمِينِ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنه لاَ يَقْتَطِعُ عَبْدٌ أو رَجُلٌ بِيَمِينِهِ مَالاً إلا لقي اللَّهَ يوم يَلْقَاهُ وهو أَجْذَمُ فقال الكندي: هي أَرْضُهُ وَأَرْضُ وَالِدِهِ» [رواه الأمام أحمد وغيره].

فهذا الصحابي الجليل الأَشْعَثِ بن قَيْسٍ ملك كندة، وأعظم زعماء وقادة حضرموت في صدر الإسلام، يصرح بأن الحضارمة -من قبيلتي كندة وحضرموت- اختصموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم “في أرض باليمن”، ومن المعلوم قطعا أن الأرض التي اختصما فيها إنما هي حيث يسكنون بحضرموت، ويؤكد ذلك أن الكندي اعترف أن الأرض أرض الحضرمي وأرض والده من قبله, فهذا نص صريح بأن حضرموت من اليمن، إلا أن يكون ثمة من يدعي اليوم أنه أعرف بحضرموت من ملك حضرموت الأشعث الكندي، وأعرف من كل علماء الأمة الذين قرءوا هذه الرواية ولم يعترضوا عليها وفيهم الحضارمة جيلا بعد جيل.

ثم هاهم التابعون على الأثر:

قال التابعي الجليل المفسر مقاتل بن سليمان عند تفسير قول الله تعالى: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ} [الأحقاف:21] “الأحقاف: الرمل باليمن في حضرموت” [تفسير مقاتل بن سليمان ص23].

وقال التابعي الجليل المفسر قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى عند تفسير الآية السابقة: “ذكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر” [رواه الطبري].

وأخرج ابن المنذر عن التابعي الجليل المفسر مجاهد رحمه الله تعالى في قوله: {بِالْأَحْقافِ} قال: “تلال من أرض اليمن” [الدر المنثور:7/ 449] للسيوطي.

وعن السدي: “أن عادًا قوم كانوا باليمن، بالأحقاف” [رواه الطبري].

وَقَالَ عبدالرحمن بْنُ زَيْدٍبن أسلم رحمه الله تعالى: “رِمَالٌ مُشْرِقَةٌ بِالشِّحْرِ مِنَ الْيَمَنِ” [ذكره أبو حيان في البحر المحيط].

وقد نقل تلك الآثار مئات من المؤلفين في التفسير يصعب حصرهم، ويطول نقل كلامهم، وقرأ تلك الآثار أمة مضت لم يأت عن واحد فقط من تلك الأمة إنكار أو اعتراض.

ومن علماء السيرة:

محمد بن إسحاق المطلبي أشهر المؤلفين في السيرة النبوية رحمه الله حيث قال: “كانت منازل عاد وجماعتهم حين بعث الله فيهم هودا الأحقاف”. قال: “والأحقاف الرمل فيما بين عمان إلى حضرموت باليمن” [رواه الطبري وابن أبي حاتم].

واخترنا من الفقهاء إمامنا الشافعي وأبا يوسف رحمهما الله تعالى:

قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى “وبهذا الإسناد قال: قال الشافعي حكاية عن أبي يوسف: عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث عكرمة بن أبي جهل في خمسمائة من المسلمين مددا لزياد بن لبيد وللمهاجر بن أبي أمية فوافقهم الجند قد افتتحوا النجير باليمن فأشركهم زياد بن لبيد -وهو ممن شهد بدراً- في الغنيمة”.

قال الشافعي رحمه الله: “فإن زيادا كتب فيه إلى أبي بكر رضي الله عنه وكتب أبو بكر رضي الله عنه إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة ولم ير لعكرمة شيئا؛ لأنه لم يشهد الوقعة، فكلم زياد أصحابه فطابوا أنفسا بأن أشركوا عكرمة وأصحابه متطوعين عليهم وهذا قولنا”.

فهذان الإمامان أبو يوسف القاضي والشافعي رحمهما الله تعالى يقران بأن حصن النجير الذي انحازت إليه كندة حضرموت في حروب الردة باليمن، وهو شرق تريم،. فماذا بعد هذا؟

ومن أهل الحديث حافظان عظيمان:

“حَضرمَوْت هِيَ من بِلَاد الْيمن مَشْهُورَة” [فتح الباري لابن حجر:1/106] قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: “وقال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: “حَضرمَوْت بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالرَّاء وَالْمِيم وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة بلد بِالْيمن” شرح السيوطي على مسلم (1/ 154)”

وجاء دور أهل التاريخ:

فهذا خليفة بن خياط رحمه الله تعالى يقول: “وفرَّق الْيمن فَاسْتعْمل عَلَى صنعاء خَالِد بْن سعيد بْن الْعَاصِ وعَلى كِنْدَة والصدف المُهَاجر بْن أَبِي أُميَّة وعَلى حَضرمَوْت زِيَاد بْن لبيد الْأنْصَارِيّ أحد بَنِي بياضة ومعاذ بْن جبل عَلَى الْجند وَالْقَضَاء وَتَعْلِيم النَّاس الْإِسْلَام وشرائعه وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَولى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ زُبيد ورِمَع وعدن والساحل وَجعل قبض الصَّدقَات من الْعمَّال الَّذين بهَا إِلَى معَاذ بْن جبلٍ” [تاريخ خليفة بن خياط ص97].

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: “العلاء بن الحضرمي واسم الحضرمي عبدالله بن ضماد بن سلمى من حضرموت من اليمن” [المنتظم:4/ 241].

وقال الإمام ابن خلدون رحمه الله تعالى: “ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب معروف وله صحبة” [تاريخ ابن خلدون: 4/ 119].

ولمؤرخي حضرموت كلمة:

قال الشيخ عبد القادر العيدروس: “حضرموت بفتح الحاء والميم وسكون المعجمة بلد باليمن” [(النور السافر: 1/62)].

وقال: “قال الإمام أبو بكر بن عبد الرحمن بن شراحيل الشبامي الحضرمي في كتابه مفتاح السنة حضرموت بلاد مشهورة متسعة من بلاد اليمن” [النور السافر: 1/62].

وقال: “وقال القزويني في عجائب البلدان حضرموت ناحيه باليمن مشتملة على مدينتين يقال لأحدهما شبام وللأخرى تريم وهي بقرب البحر وشرقي عدن وأنها بلاد قديمة” [النور السافر: 1/62].

وقال المؤرخ علوي بن طاهر الحداد في كتابه الشامل ص7: “وحضرموت من اليمن كما تصرح به الأحاديث”.

ومن أهل الأدب:

قال القلقشندي وهو يتحدث عن أسواق العرب المعروفة: “ثم يرتحلون فينزلون حضرموت من بلاد اليمن” [صبح الأعشى في صناعة الإنشاء ج1/ ص468].

وأختم بهذه الأبيات لعبد يغوث بن وقاص الحارثي يستنصر فيها ببعض عظماء رجال العرب وفيهم قيس بن عمرو الكندي الحضرمي والد الأشعث وسأنقلها مع قصتها من البيان والتبيين للجاحظ:

“قال: ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، إنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدوا لسانه بنسعة، كما صنعوا بعبد يغوث ابن وقاص الحارثي حين أسرته بنو تيم يوم الكلاب. وهو الذي يقول:

أقول وقد شدوا لساني بنسعة *** أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا

وتضحك مني شيخة عبشمية *** كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا

كأني لم أركب جوادا ولم أقل *** لخيلي كري كرة عن رجاليا

فيا راكبا إما عرضت فبلغن *** نداماي من نجران أن لا تلاقيا

أبا كرب والأيهمين كليهما *** وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا

كان سألهم أن يطلقوا لسانه لينوح على نفسه، ففعلوا، فكان ينوح بهذه الأبيات، فلما أنشد قومه هذا الشعر قال قيس: لبيك وإن كنت أخرتني” [البيان والتبيين: (3/ 273- 274)].

والقصيدة بتمامها مع كامل قصتها في العقد الفريد في أحداث “يوم الصفقة: ويوم الكلاب الثاني”.

والبيت الأخير محل الشاهد متواتر في كتب الأدب والتاريخ، وقد قرأه آلاف الشعراء والأدباء والكتّاب، فهل قرأتم لأحد هؤلاء اعتراضا على قول عبد يغوث: “حضرموت اليمانيا”؟

فهذا غيض من فيض وقليل من كثير، وكل الذي نريده ترك محاولة تغيير التاريخ والجغرافيا لأجل موقف سياسي.

زر الذهاب إلى الأعلى