خطبة منزلة الأقصى وواجب الدفاع عنه
بقلم🖋شيخنا الفاضل الشيخ صالح بن محمد باكرمان حفظه الله
الحمد لله ذي الجلال والإكرام ، ذي المُلك الذي لا يضام، والسلطان الذي لا يرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذي الجبروت والانتقام ، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه خيرة الخلق وصفوة الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه العظام.
أما بعد ،
أيها المسلمون الكرام
اتقوا الله حق تقواه
قال الله عز وجل:{ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ }[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١٠٢].
عباد الله
إن تعظيمَ المقدساتِ والدفاعَ عنها علامة على حقيقة الإيمان، وصدق الاعتقاد، وقوة الانتماء، والتخلي عن المقدسات والتهاون بشأنها علامة على غبش الإيمان، وخلل الاعتقاد، وضعف الانتماء.
والمسجد الأقصى من أعظم المقدسات الإسلامية، فالمسجد الأقصى هو أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى : { سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلࣰا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ }[سُورَةُ الإِسۡرَاءِ: ١]. فالمسجد الأقصى مسجد مبارك وفي أرض مباركة، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وصلى الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الأقصى بالأنبياء جميعا وفي ذلك أعظم الإشارة إلى عظيم شأن هذا المسجد والقدس وأنه موطن اجتماع أهل الإسلام من الأمم جميعا، ومن المسجد الأقصى انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رحلة العلو إلى السموات العلا، وفي ذلك إشارة إلى أن المسجد الأقصى هو موطن علو الأمة وصعودها.
وقد ربط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمته كلها بالمسجد الأقصى وحثهم على زيارته وتكلف السفر له، وشدِّ الرحال من أجل الوصول إليه والصلاة فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” لَا تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ” رواه البخاري ومسلم.
والمسجد الأقصى والشام هو عقر دار أهل الإسلام في آخر الزمان، وموطن بقايا الطائفة القائمة المنصورة إلى قيام الساعة، فعن مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله َسَلَّمَ يَقُولُ : ” لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ “. قَالَ عُمَيْرٌ : فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ : قَالَ مُعَاذٌ : وَهُمْ بِالشَّأْمِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ وَهُمْ بِالشَّأْمِ. رواه البخاري ومسلم.
ولقد عرف الصحابة رضي الله عنهم قيمة المسجد الأقصى والقدس فحرروها من ربقة الرومان، وتجشم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عناء السفر إلى بيت المقدس ليستلم مفتاحها بيده، وينظف مواضع من المسجد بيده الشريفة، ويبنى في ساحات الأقصى المسجد العمري، ويكتب لأهل الكتب أمانه المعروف.
وقد وقعت القدس بيد النصارى لنحو قرنين من الزمان لم يزل فيها أهل الإسلام يجاهدون النصارى جيلا بعد جيل حتى هيأ الله عز وجل للقدس والأقصى البطل العظيم صلاح الدين الأيوبي الذي سعى لجمع الأمة وتحرير المسجد الأقصى من نجس النصارى فصار بذلك صلاح الدين رمزا من رموز الأمة، وقائدا من قادتها العظماء، وقدوة من قدواتها الأبرار.
ولما ضعفت الأمة الإسلامية في هذا الزمان بسبب تفرقها وتركها للعمل بالقرآن، تطاول عليها اليهود والنصارى، فاحتلوا البلاد، واستضعفوا العباد، وسعت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية ليجعلوا من فلسطين وطنا قوميا لليهود، فتحرك المسلمون من كل مكان لمحاربة اليهود والنصارى، وقد ضرب الشيخ عز الدين القسام رحمه الله تعالى أروع الأمثلة في ذلك، وهو شيخ من سوريا ، لكنه من أجل الأقصى باع داره وكل ما يملك وهاجر إلى فلسطين ليقاتل اليهود الغاصبين، حتى استشهد رحمه الله تعالى، وقامت دولة يهود في ظل تفرق الأمة وتخبطها ولن تتحرر القدس حتى تكون قضية القدس والأقصى قضية الأمة بأسرها لا قضية الفلسطينيين وحدهم، ولا قضية العرب وحدهم، وقد كانت قضية فلسطين والأقصى قضية حية في قلب كل عربي ومسلم حتى مال حكام العرب إلى السلام والتطبيع، لكن رجال فلسطين وغيرهم من أحرار العرب والمسلمين ظلوا أوفياء لهذه القضية، يفدونها بأموالهم وأبنائهم وأنفسهم، ويجب على كلِّ مسلمٍ صادقٍ في دينه، وفيٍّ لمقدساته أن يكون نصيراً لقضية الأقصى وفلسطين، ولا سبيل لتحرير الأقصى وفلسطين إلا بالجهاد والمقاومة، ولابد من إعداد العدة لذلك قال الله تعالى : { وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ }[سُورَةُ الأَنفَالِ: ٦٠].
بارك الله لنا ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد،
أيها المسلمون عباد الله
اتقوا الله حق تقواه
عباد الله
إن اليهودَ قومٌ بهت، مغضوبٌ عليهم، ملعونون على ألسنةِ النبيين، وهم والمشركون أشدُّ الناس عداوةً للمؤمنين، قال الله تعالى : { ۞ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَ ٰوَةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّا نَصَـٰرَىٰۚ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّیسِینَ وَرُهۡبَانࣰا وَأَنَّهُمۡ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ }[سُورَةُ المَائـِدَةِ: ٨٢].
وقد اشتدت وطأة اليهود الغاصبين لأرض فلسطين على أهلنا في القدس وفي غزة وفي عموم فلسطين، وكثرت فيهم المذابح والمآسي، ولكن أهلنا في أرض الرباط ظلوا ثابتين صابرين، وضربوا للعالم أروع الأمثلة في الصبر والثبات والشجاعة والإباء، بعد أن تخلت عنهم الدول العربية والإسلامية إلا ما شاء الله، حتى أذن الله عز وجل بقيام انتفاضة الحجارة في غزة ثم في عموم فلسطين تلك الانتفاضة أحيت القضية الفلسطينية وجددت في شباب فلسطين الحماس وأمل التحرير، ومهدت لاتفاقية “أوسلو” وقيام الحكومة الفلسطينية، ومع ذلك فيوم أن قامت تلك الانتفاضة المباركة برز من يلوك لسانه على تلك الانتفاضة ويزعم أنها من التهور الواضح، إذ كيف تقابل الدبابات والمجنزرات بالحجارة والمقلاع؟ قال الله تعالى: { وَمَاۤ أَصَـٰبَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِیَعۡلَمَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ (١٦٦) وَلِیَعۡلَمَ ٱلَّذِینَ نَافَقُوا۟ۚ وَقِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡا۟ قَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُوا۟ۖ قَالُوا۟ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالࣰا لَّٱتَّبَعۡنَـٰكُمۡۗ (١٦٧) ١٦٦-١٦٧]. ثم جاءت انتفاضة الأقصى بعد سنوات من انتفاضة الحجارة فازدادت وتيرة الأعمال العسكرية وانتهت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ولكن المنافقين والمثبطين لم يروا في تلك الانتفاضة إلا جلب المصائب على أنفسهم وعلى الفلسطينيين، قال الله تعالى : { یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَقَالُوا۟ لِإِخۡوَ ٰنِهِمۡ إِذَا ضَرَبُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُوا۟ غُزࣰّى لَّوۡ كَانُوا۟ عِندَنَا مَا مَاتُوا۟ وَمَا قُتِلُوا۟ لِیَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَ ٰلِكَ حَسۡرَةࣰ فِی قُلُوبِهِمۡۗ وَٱللَّهُ یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ (١٥٦) وَلَىِٕن قُتِلۡتُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَیۡرࣱ مِّمَّا یَجۡمَعُونَ (١٥٧) }[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١٥٦-١٥٧]. ثم طورت المقاومة أدواتها، فتحول أطفال الحجارة إلى قادة حرب، وخبراء تخطيط، ومهندسي أسلحة، واستبدلت الحجارة بالصواريخ، ولا زال من يصف تلك الصواريخ التي أرعبت اليهود بالصواريخ العبثية. ثم تحولت المعركة اليوم إلى عملية “طوفان الأقصى” وهي معركة الهجوم والتوغل في المستوطنات والإثخان في العدو، ولا زال في الأمة من لا يرى هذا التقدم، ولا ينتظر إلا ضربات العدو الموجعة، ويظن أن لن تبقى للمقاومة باقية، وهذا شأن المنافقين وليس شأن المؤمنين الصادقين، قال الله عز وجل مخاطباً للمنافقين : { بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن یَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰۤ أَهۡلِیهِمۡ أَبَدࣰا وَزُیِّنَ ذَ ٰلِكَ فِی قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورࣰا }[سُورَةُ الفَتۡحِ: ١٢]. عباد الله إن إخواننا في غزة اليوم يواجهون أشد أنواع البطش الصهيوني، والمسح التام لأحياء بأسْرها، واستخدام للمواد المحرمة دولياً، والقطع للماء والغذاء والدواء، وهم بحاجة منا إلى مساندتهم، وهذا واجب على الدول والجماعات والأفراد، وأقل ما يقدمه لهم العاجز منا هو الدعاء، فلا يكن أحدنا مخذلاً أو مثبطاً أو شامتاً، ولا نسمح للشيطان أن يخوفنا أولياءه، ولنتذكر قول الله تعالى عن طالوت وجيشه: { فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ قَالُوا۟ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡیَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةࣰ كَثِیرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ (٢٤٩) }[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٤٩]. والخلاصة – عباد الله – أن الأقصى والقدس جزءٌ من عقيدتنا، ومعلمٌ من معالم شريعتنا، وصفحةٌ من صفحات تاريخنا التي خطّت بالدم، ولن يُفَرَّطَ في الأقصى والقدس ما بقي على وجه الأرض مسلم. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم انصر إخواننا في غزة وفلسطين.
اللهم كن لهم ناصراً ومعيناً
اللهم عليك باليهود الغاصبين اللهم لا ترفع لهم راية ولا تحقق لهم غاية واجعلهم عبرة وآية.
اللهم رد كيدهم في نحورهم ياقوي يا عزيز.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين