انتفاضة مصر

أما قبل فقد انتفضت مصر بأسرها، فخرج شعب مصر إلى الشوارع مندداً بالنظام ومطالباً برحيله في مسيرات سلمية, لا يحملون فيها السلاح, ولا يؤذون أحداً من الجنود. وكان السبب في ذلك هو الظلم المستطير في أرض الكنانة, والسباحة ضد تيار الشعب المصري المسلم الذي أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم به خيراً.

لقد كانت انتفاضتي تونس ومصر قدراً مقدوراً لم يدخل تحت حسابات مراكز الرصد والتتبع, ولم تستوعبها عقول كثير من الساسة والمحللين, ذلك أنها كانت خبيئ إلهية، وهي من سنة الله الكونية بإهلاك الظالمين، قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن كعب الأحبار يقول: من ظلم خرب بيته. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: مصداق ذلك في كتاب الله {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:52].

وأما بعد الانتفاضة فهل كان من المصلحة الحديث عن حكم الخروج على الحاكم؟

– لو صرفنا النظر عن كون الانتفاضة كانت سلمية، وأن الناس خرجوا عزّلا من السلاح.

– ولو صرفنا النظر عن كون الدساتير المعاصرة التي يقر بها الحكام تسمح للناس في إقامة الفعاليات السلمية.

– ولو صرفنا النظر عن كون الجيش المصري وقف بالحياد منذ اللحظة الأولى.

– ولو صرفنا النظر عن واقع النظام المصري، فهو الصديق الوفي لليهود والصليبيين في المنطقة.

لو صرفنا النظر عن ذلك كله – مع أنها معطيات تؤثر في الحكم – فإن الأهم هو أن ثمة فرقا بين ما قبل الحدث وما بعد الحدث، ما قبل الحدث حيث يصح أن يقال: لا ينبغي تهييج الناس خشية الفتنة، وما بعد الحدث حيث لا مجال للفتوى بتحريم الخروج ونحوه، وإنما الواجب حينها هو توجيه الناس وتقليل الشر وتخفيف المفسدة، والسعي في الصلح بين المسلمين ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وإنما تجب العزلة حين العجز عن إحداث التغيير، وبعد الهرج والمرج واختلاط الحابل بالنابل، قال الإمام ابن الملقن في شرح حديث: «يفر بدينه من الفتن» من صحيح البخاري: “.. فضل العزلة في أيام الفتن؛ لإحراز الدين، ولئلا تقع عقوبة فتعم، إلا أن يكون الإنسان له قدرة على إزالة الفتنة، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها، إما فرض عين وإما فرض كفاية بحسب الحال والإمكان “.

و الأصل في هذا قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]. ثم ما حدث أثناء الفتنة بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل الشام ثم بين الحسن بن علي رضي الله عنهما وأهل الشام وعلى رأسهم معاوية رضي الله عنه، فقد كانت الوفود والمصلحون بين الطائفتين، وتوصلت إلى الصلح بين المسلمين وجمع الكلمة في الأولى والآخرة؛ بل إن الحسن رضي الله عنه تنازل عن الخلافة من أجل جمع الكلمة ووحدة الصف، ولم يكن منه طريق ولا عليه غبار؛ ولكنه آثر مصلحة الأمة وجمع كلمتها على التمسك بحقه في الخلافة؛ بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أثنى على الحسن رضي الله عنه بقوله: «ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين» [رواه البخاري ومسلم]. وهذا دليل قوي على أن حكم ما بعد قيام الفتنة غير ما قبلها وإلا فإن الأصل هو تمسك الخليفة بخلافته حتى بعد قيام الفتنة، لكن النظر بعدها للمصلحة ودرء المفسدة؛ لهذا أثنى على صنيعه النبي صلى الله عليه وسلم.

فواجب القادرين بالكلمة أو الفعل هو السعي لجمع كلمة المسلمين، وإزالة الفتنة، وإذا كانت الفتنة لا تزول إلا برحيل الحاكم فليرحل الحاكم أو فليستجب لمطالب الأمة المشروعة، ولا أعتقد أن شخصا يجوِّز التفكير في المقارنة بين الحسن بن علي رضي الله عنه وحكامنا المعاصرين!

زر الذهاب إلى الأعلى