خطبة الإسراء والمعراج – مفرغة

الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو أهل المغفرة والتقوى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله عرج به ربه إلى سدرة المنتهى، ليريه من آياته الكبرى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ما تعاقب الملوان، وأسفرت الشعرى.
أما بعد
فاتقوا الله عباد الله حق تقواه، قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[سورة آل عمران: 102].
أيها المسلمون عباد الله
لما كانت السنة العاشرة من البعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم توالت الأحزان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مات عمه أبو طالب الذي كان يحوطه ويرعاه، وماتت زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت تعينه وتسليه، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحوج ما يكون إلى ما يقوي إيمانه، ويثبت فؤاده، ويشد عزيمته، وينسيه همومه وغمومه، فقدر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم رحلة المعراج والإسراء ليريه من آياته الكبرى.
وقعت معجزة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من شهر رجب في السنة العاشرة من البعثة النبوية على القول المشهور ، وذهب بعض المحققين إلى أنها وقعت بعد ذلك قبيل الهجرة.
وقد بدأت تلك الرحلة الكريمة والمعجزة العظيمة من بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة المكرمة، فبينما هو نائم بأبي هو وأمي في بيته إذ فُرِجَ عن سَقْفِ بيته فَنَزَلَ عليه جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحطيم عند الكعبة وزمزم فشق صَدْره من نحره إلى منتهى بطنه، ثم استخرج قلبه فغَسَلَه وغسل جميع صدره بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِه وملأ قلبه وعروقه، ثُمَّ أعاد قلبه وأَطْبَقَ صدره ولأمه.
وكأن في ذلك تهيئة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قلبا ونفسا وجسدا لرحلة الإسراء والمعراج.
ثُمَّ أُتِي بالْبُرَاقُ وهي دَابَّةٍ أَبْيَضَ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى بصره، فَحُمِلْ  عَلَيْهِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَسَارَ بِه حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ.
وجمع الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلك الليلة كل الأنبياء والمرسلين، في بيت المقدس فصلى بهم ركعتين، إيذانا بإمامته للعالمين، صلوات ربي وسلامه عليه.
قال الله عز وجل :(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[سورة اﻹسراء: 1].
فسبح الله عز وجل نفسه وعظم جل جلاله نفسه بأنه أسرى بعبده محمد  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ليلا تعطيما لهذه المعجزة الظاهرة، وتفخيما لهذه الآية الباهرة.
ثُمَّ انْطَلَقَ جبريل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعرج به إلى السماء حَتَّى إذا أَتَيْا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، اسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ. قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ : وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ.  فَفَتَحَت الملائكة لَهما.
وهكذا من سماء إلى سماء حتى بلغا السماء السابعة.
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أنه لقي:
في السماء الدنيا أبانا آدم عليه الصلاة والسلام.
وفي السماء الثانية ابني الخالة عيسى ويحيى عليهما الصلاة والسلام.
وفي السماء الثالثة يوسف عليه الصلاة والسلام وإذا به قد أعطي شطر الجمال،
وفي السماء الرابعة إدريس عليه الصلاة والسلام،
وفي السماء الخامسة هارون عليه الصلاة والسلام،
وفي  السماء السادسة موسى الكليم عليه الصلاة والسلام،
وفي السماء السابعة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام،
وكلهم كانوا يرحبون به بأبي هو وأمي ويثنون عليه خيرا.
ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السماء السابعة البيت المعمور وإذا هو يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ أُتِي النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، قال: فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقيلَ : هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ.
وتجاوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم السموات السبع حتى بلغ سدرة المنتهى، وبلغ مكانا يسمع فيه صريف الأقلام.
ورأى من آيات ربه الكبرى ما رأى.
وكلم الجبار جل جلاله نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وقربه إليه، وفرض عليه في ذلك المقام العالي الصلوات الخمس إيذانا بعلو مقامها وعظيم شأنها وجليل قدرها عند الله عز وجل.
وقد فرضها الله عز وجل خمسين صلاة فلم يزل يراجعه موسى عليه الصلاة والسلام ويراجع ربه عز وجل حتى كتبها خمسا في العمل وخمسين في الميزان.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى نَأْتِيَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ، لَا أَدْرِي مَا هِيَ. قَالَ : ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤَ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ “.
فيا لله ما أعظمها من رحلة، وما أشد أثرها على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الله عز وجل :(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ * )[سورة النجم: 1 – 18].
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم…

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وسيد الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن انتهى من رحلته في السموات ركب مُنْصَرِفًا إلى مكة  فَلما أَصْبَحَ أَخْبَرَ عَمَّا كَانَ، فاستعظم الناس ذلك وكان لبعضهم فتنة، قال الله عز وجل:( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)[سورة اﻹسراء: 60]٠
ولَمَّا سَمِعَ بعض الْمُشْرِكينَ قَوْلَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أَتَوْا أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالُوا: يَا أَبَا بَكْرٍ هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ؟ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَتَى فِي ليلته هذه مسيرة شهر ورجع في ليلته.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ كَانَ قَالَهُ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنَّا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا لنصدقه عَلَى خَبَرِ السَّمَاءِ، وَمَنْ ذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ.
ثم طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصف لهم بيت المقدس كدليل على صدقه، وفيهم من قد رأى بيت المقدس، فوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجر ووصف لهم بيت المقدس، بأتم الوصف وأدقه، فخضعت أكثر الرقاب لهذه المعجزة الباهرة والآية الظاهرة.
فعوفي الحديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” لَمَّا كَذَّبَنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَا اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْه “.رواه البخاري ومسلم.
عباد الله
إن لحادثة الإسراء والمعراج مقاصد عظيمة ومعاني جليلة ينبغي معرفتها والوقوف عندها:
فمن مقاصد الإسراء والمعراج تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيناسه، وتقوية عزيمته وتثبيت فؤاده.
ومن مقاصد الإسراء والمعراج ابتلاء العباد به وفتنة الخلق بعجيب أمره.
ومن مقاصد الإسراء والمعراج الإعجاز به، وإقامة الدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصدقه.
وليست هذه هي المعجزة الوحيدة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل معجزاته كثيرة وبراهين صدقه متعددة، وعلينا معشر المسلمين أن نتدارس هذه المعجزات تثبيتا للإسلام في نفوسنا، وتقوية للإيمان في قلوبنا، ودرءا للشبهات التي يثيرها أعداؤنا.
ومن مقاصد حادثة المعراج والإسراء الربط بين المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى الذي بارك الله عز وجل حوله بما فيه خير في العاجلة والأخرى. وسيظل المسجد الأقصى قرينا للمسجد الحرام فهما المسجدان الأقدام، وفيهما القبلتان الشريفتان، وهما في العقيدة والشريعة من المنزلة بمكان.
ومن مقاصد الإسراء والمعراج أن الفرج يأتي بعد الشدة، وأن اليسر ينزل بعد العسر، وأن الله عز وجل حافظ عباده المؤمنين، وأولياءه المقربين، والعاقبة للمتقين.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله عز وجل بالصلاة والسلام عليه فقال :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[سورة اﻷحزاب:56].

أبو مجاهد
صالح بن محمد باكرمان

زر الذهاب إلى الأعلى