خطبة اعرف نبيك -مفرغة-

عنوان الخطبة : اعرف نبيك للشيخ الفاضل أبي مجاهد صالح بن محمد باكرمان

لتحميل الخطبة صوتية من هنا

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا .

أما بعد :أيها المسلمون عباد الله، اتقوا الله حق تقواه .

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [سورة آل عمران 102].

عباد الله ، من حق رسولنا الكريم محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – علينا أن نعرفه ، وأن نعرف نبذة من سيرته، وطرفاً من تاريخ دعوته ، وأن نتذاكر هذه السيرة  العطرة الفينة بعد الفينة ؛ لنهتدي بهديه، ونستنَّ بسنته، ونتمسك بطريقته بأبي هو وأمي.

ولد رسولنا الكريم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن كلاب القرشي العربي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في يوم الاثنين ، في الثامن من شهر ربيع الأول ، أو التاسع ، أو العاشر ، أو الثاني عشر وهو المشهور على خلاف بين العلماء ، في عام الفيل بمكة المكرمة زادها الله -عز وجل- تشريفاً وتكريما ، ولد يتيماً بعد موت أبيه بأشهر، ورأت أمه آمنة بنت وهب الزهرية حين ولدت به كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى بالشام ، وبشر بولادته جده عبد المطلب ، فجاء فرِحاً ، وأخذه نحو الكعبة المشرفة ، وسماه محمدا بإلهام من الله سبحانه وتعالى ؛ ليُحمد في الأرض وفي السماء .

وكانت أول من أرضعته ثويبة مولاة عمه أبي لهب ، ثم استُرضع في بني سعد حيث أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وحلَّت بها وببيتها وبأهلها البركة ، وشُق صدره من قِبل الملائكة وهو في بني سعد، فخافت عليه حليمة السعدية ، وأرجعته إلى أمه، فمكث مع أمه حتى بلغ السادسة من عمره ، ثم ماتت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة، فصار النبي –  صلى الله عليه وآله وسلم – يتيم الأب والأم ، فكفله جده عبد المطلب، وكان يحبه ويقدمه ، ثم مات جده عبد المطلب وهو في الثامنة من عمره ، فكفله عمه أبو طالب وكان به شفيقاً رفيقا ، وكان يقدمه على أولاده مع أنه كان عائلاً فقيراً إلا أنه كفله وآواه ، قال الله – عز وجل – ممتناً على رسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – : (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[سورة الضحى: 2 – 11].

ولما اشتدَّ عود النبي-  صلى الله عليه وآله وسلم – اجتهد في العمل منذ صغره ليُعين عمه ، فكان يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط ، حتى شبَّ صلوات ربي وسلامه عليه ، فعمل في التجارة ، فذاع صيته ، واشتهر صدقه ، فسمعت به السيدة خديجة بنت خويلد القرشية رضي الله عنها وأرضاها ، فاستأجرته ليعمل معها في التجارة، وأعجبت بخلقه وأمانته، فرغبت بالزواج منه ، فتزوجها – صلوات ربي وسلامه عليه – وهو في الخامسة والعشرين من عمره ، وهي في الأربعين ، وكان له منها الولد إلا إبراهيم من مارية رضي الله عنها ، فولدت له خديجةُ القاسمَ ، وبه كان يُكنى ، فيقال له : أبو القاسم ، وولدت له عبد الله ، وكان يلقب بالطيب والطاهر، وولدت له زينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة رضي الله عنهن أجمعين . وعاش النبي – صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجه عيشة هنية .

وقد شارك النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في إعادة بناء الكعبة وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، ووضع الحجر الأسود في مكانه بيديه ، ولما بلغ الأربعين من عمره حببت إليه الخلوة ؛ ليتعبد الله – عز وجل بالتفكر في مخلوقاته ،قد قذر أمر الجاهلية وشئون الجاهلية وعبادة الجاهلية ، فكان يتعبد بغار حراء في شهر رمضان ، فجاءه الملك جبريل – عليه السلام – وهو في غار حراء ، فأنزل الله – عز وجل- عليه بواسطة جبريل – عليه السلام – صدر سورة العلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)[سورة العلق: 1 – 3]. فكان بذلك نبياً موحى إليه.

ثم أنزل الله – عز وجل – عليه قوله : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)[سورة المدثر: 1 – 7]. فصار بذلك رسولاً منذراً مأموراً بالتبليغ، فاستجاب لأمر ربه ، فدعا إلى التوحيد ، وكبر ربه وعظمه ، وصبر على الأذى في الدعوة ، فآمنت به خديجة وعلي وزيد وأبوبكر رضي الله عنهم ، وآمن به من آمن .

وكانت دعوته سراً ثلاث سنين ، ثم أنزل الله – عز وجل عليه -:(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)[سورة الحجر: 94]. فصدع النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بالدعوة ، فدعا إلى توحيد الله عزوجل ، ودعا إلى الإيمان به وبرسالته ، ودعا إلى الإيمان بالقرآن ، فآمن به من آمن ، وكفر به من كفر ، وغشي الناس في مجامعهم قائلاً  لهم : “قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا” ، وقال لهم: “إني رسول الله فمن يحملني كي أبلغ دعوة ربي”.

وأمره الله – عز وجل – بمفارقة ومفاصلة المشركين ومفاصلة دينهم مفاصلة تامة،  قال الله – عز وجل – : (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[سورة الكافرون: 1 – 6].

فقاموا عليه ووقفوا ضده ، وأوذي في ذات الله – بأبي هو وأمي – وأصحابه ، فصبر وصبروا .

فمكث عشر سنين يدعو إلى التوحيد والرسالة ، ويتلو عليهم القرآن، ويربي على الأخلاق والمكارم ودعائم الإيمان .

ومضت السنوات في الدعوة والابتلاء والصبر ، حتى كانت السنة العاشرة من البعثة النبوية ، مات فيها أبو طالب ، وماتت فيها خديجة رضي الله عنها وأرضاها ، وحزن – صلى الله عليه وآله وسلم – حزنا عظيما .

وفي تلك السنة أو بعدها أسري بالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلى بيت المقدس ، وعرج به إلى السموات، وفرضت عليه وعلى أمته الخمس الصلوات ، ورأى من آيات ربه الكبرى ما رأى .

ثم اضطرته قريش بأذاها له إلى الهجرة، فهاجر من مكة المطهرة إلى المدينة المنورة ،بعد مضي ثلاث عشرة سنة ، قال الله – عز وجل -: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[سورة التوبة: 40].

أقول ما سمعتم ، وأستغفر الله لي ولكم ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد : أيها المسلمون عباد الله ، اتقوا الله حق تقواه .

عباد الله ، ولما استقر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في المدينة ، بدأ بإرساء قواعد المجتمع المسلم والدولة المسلمة.

فبدأ – صلى الله عليه وآله وسلم – ببناء المسجد؛ لأنه هو محل العبادة ، ومحل الارتباط والصلة برب العالمين جل جلاله ؛ ولأنه مكان اللقاء ومنطلق المسيرة.

ثم آخى -صلوات ربي وسلامه عليه- بين المهاجرين والأنصار؛ لأن الأخوة والاجتماع والتعاون بين المسلمين هو أساس التماسك ومعدن القوة وصِمَام أمان المجتمع.

وبعد ذلك كتب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صحيفة العهد بين المسلمين ومن سواهم من سكان المدينة ، من اليهود وبقايا المشركين ، إيذاناً منه – صلى الله عليه وآله وسلم – بأن الإسلام هو دين التعايش السلمي، والتسامح الديني ، مع المحافظة على الثوابت  والقيم والتمسك بالمبادئ .

وفي المدينة أذن الله – عز وجل – للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ومن معه من المسلمين بقتال المشركين ، وشرع لهم جهاد الكافرين، فكان العهد المدني هو عهد الغزوات والسرايا، وجاهدوا في الله حق جهاده، حتى فتح الله – عز وجل – لهم مكة وأعز بهم الدين . ﴿إِذا جاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالفَتحُ۝وَرَأَيتَ النّاسَ يَدخُلونَ في دينِ اللَّهِ أَفواجًا۝فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إِنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾ [النصر: ١-٣].

وشرع الله – عز وجل – في المدينة الشرائع ، وأكمل الدين ، وأتم النعمة ، ورضي له الإسلام دينا ، وأنزل على نبيه في حجة الوداع ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ)[سورة المائدة: 3].

ثم توفاه الله عز وجل ، واختاره إلى جواره بعد أن بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ، والطريقة البلجاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك.

توفي النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وهذه سنة الله في أنبيائه ورسله ، قال الله – عزوجل – : ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلّا رَسولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن ماتَ أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلى أَعقابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيئًا وَسَيَجزِي اللَّهُ الشّاكِرينَ﴾ [آل عمران: ١٤٤].

توفي النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ولكنَّ دينه باق، وهذا دينه يدعو إلى التوحيد ، وينهى عن الشرك، ويأمر بأمر ربه عز وجل ، فيأمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى، وينهى بنهي ربه عز وجل ، فينهى عن الفحشاء ، والمنكر ، والبغي.

ويدعو إلى مكارم الأخلاق، وينهى عن سيئها، ويدعو إلى الأخوة الصادقة، والحرية المنضبطة، والمساواة العادلة.

والصادق في محبته يتمسك بدينه وسنته، ويتبع هديه وطريقته، قال الله – عز وجل – :(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[سورة آل عمران :31].

.فاتقوا الله عبادالله ، واستمسكوا بحبل الله وسنة رسول الله ، واهتدوا بهديه واقتفوا أثره .

أسأل الله – سبحانه وتعالى- أن يمن علينا وعليكم بالخير !

اللهم سددنا يارب العالمين !ثبتنا على الحق ! اللهم ثبتنا على طريقة رسولك محمد صلى الله عليه وآله وسلم!

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات !

اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وذرياتنا ومن له حق علينا!

ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار!

اللهم رخص أسعارنا ، غزر أمطارنا ، ولِّ علينا خيارنا !

اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشدا ، يعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك ، ويُؤمر فيه بالمعروف ، ويُنهى فيه عن المنكر !

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم ! وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .

زر الذهاب إلى الأعلى