خطبة البعثة ومبدأ الوحي -مفرغة-

البعثة ومبدأ الوحي                    

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا )(يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا* يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)

أيها المسلمون عباد الله: ومع حلقة جديدة من حلقات السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وهذه الحلقة بعنوان (البعثة ومبدأ الوحي)

أيها المسلمون عباد الله : لما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأربعين من عمره بدئ به الوحي , قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها :(وأول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ) لا يرى رؤيا إلا تحققت في الواقع وظهرت في الواقع كما رآها واضحة وضوحا كوضوح ضياء الصبح,ثم حبب إليه الخلاء .. حببت إليه الخلوة ليخلو بالله عز وجل .. حببت إليه الخلوة لينقطع إلى ربه سبحانه وتعالى ويتأمل في الوجود ويتملى , وكان يتخلى في غار حراء يخلو بنفسه في شهر رمضان في غار بجبل حراء , وكان صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ زاده من عند زوجته خديجة رضي الله عنها لبضع ليال ثم يذهب إلى غار حراء فيتعبد فيه ويتحنف يتعبد لله عزوجل على الحنفية ملة إبراهيم عليه الصلاة السلام يمكث الليالي ذوات العدد فإذا نفد منه الزاد رجع إلى خديجة وتزود لمثلها وهذا دأبه في رمضان كلما نفد زاده رجع فتزود لعدة أيام ورجع لمكان خلوته وبينما هو كذلك إذ جاءه الحق ونزل عليه الوحي , جاءه الملَك أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام وفجأهُ وهو في غار حراء وقال له جبريل عليه الصلاة والسلام :( اقرأ) فقال صلوات ربي وسلامه عليه:(ما أنا بقارئ ) أي لست ممن يقرأ كان أميا بأي هو وأمي وامتلأ صلى الله عليه وسلم بالرعب والفزع من هذا الشخص الغريب الذي جاء وفجأهُ بدون مقدمات رعب صلى الله عليه وسلم وأخذه جبريل وضمه إلى صدره وغطه وكتم نفسه ليهدئ ويهون من روعه قال:( فأخذني فعطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ ، فقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ ولا يزال الفزع والرعب يملأ صدره فأخذه جبريل فغطه الثانية حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال : اقرأ ، فقال ما أنا بقارئ ، فأخذه جبريل فغطه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله ثم قال له في الثالثة :( اقرأ باسم ربك الذي خلق *خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم *الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم ) هذه هي الآيات الأولى التي نزلت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان بها نبيا موحى إليه , نبئ باقرأ صلوات ربي وسلامه عليه ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) يأمره الله عز وجل أن يبدأ أمره بالقراءة التي فيها الخير وهي المنطلق للخير في أمر الدين والدنيا وفي أمر الأولى والآخرة وأمره أن يقرأ باسم ربه الذي خلق , الذي أوجد , الذي له المنة سبحانه وتعالى ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ليس باسم اللات ولا العزى ولا مناة ولا هبل ولا باسم شي من الأوثان والأصنام,ولا باسم شي من الخلق ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق) ووعده الله بالخير وبشره بالخير بالإكرام والتعليم ( اقرأ وربك الأكرم *الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم) ثم انطلق جبريل وذهب وفي بعض الروايات في غير الصحيحين أنه تبدا له على صورته الحقيقية بعد ما خرج من عنده , فارتعب الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبق ليكمل أيامه ولياليه ولا زال الزاد معه , فرجع بها : رجع بهذه القصة ورجع بهذه الآيات , رجع بها إلى خديجة يرجف بها فؤاده وترجف بها بوادره : وهي اللحمات بين العنق والمنكب , حتى وصل صلى الله عليه وآله وسلم إلى خديجة فقال : زملوني زملوني فزملته خديجة وسكنته وهدأته حتى ذهب منه الروع وذهب عنه الخوف وانقشع عنه الرعب فسألته خديجة عن حاله فقال صلى الله عليه وسلم فأخبرها الخبر وقص عليها القصة وقال : لقد خشيت على نفسي ، ما الذي خشيته يا رسول الله على نفسك قال بعض أهل العلم : خشي على نفسه أن يكون هذا الطارئ من أمر الشيطان إن كان ذلك في أول الأمر وإلا فإنه قد تبين له أنه ليس من الشيطان , وقال بعض أهل العلم : خشي على نفسه المرض أو خشي على نفسه الموت ، في أقوال كثيرة أرجحها : أنه خشي على نفسه المرض أو الموت كما قال ابن حجر رحمه الله ، (لقد خشيت على نفسي) خشي على نفسه ما يكون به خزيه وذله فقالت خديجة رضي الله عنها ــ المرأة العظيمة والزوجة العظيمة ــ : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، حلفت بالله هي تعرف الله والعرب في جاهليتهم يعرفون الله عز وجل ويقرون به أقسمت بالله وكانت تعرف في جاهليتها أن الله عز وجل لا يخزي أهل الخير والصلاح فكيف بمعرفتها بعد إسلامها رضي الله عنها وأرضاها (كلا والله ما يخزيك الله أبدا) لماذا لا يخزيه الله ؟ وكيف عرفتي ذلك يا خديجة ؟ عرفت ذلك من خلال صفاته من خلال أخلاقه من خلال خصاله الحسنة تعرفت على قربه من الله وعلى معية الله له بخصالة الحميدة وهذه وسيلة من وسائل معرفة الرسالة التعرف على الرسالة بواسطة صفات الرسول كما تعرف هرقل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من خلال صفاته وليست المعجزات وحدها هي السبيل إلى معرفة الرسالة،( كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرئ الضيف وتعين على نوائب الحق) هذه هي صفات محمد صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة , (إنك لتصل الرحم) : تصل رحمك بالبر والإحسان مما يدل على التواضع وعلى الإحسان وحب الإجتماع ، (وتحمل الكل )والكل هو الإنسان الذي لا يقوم بنفسه , يحمله الرسول صلى الله عليه وسلم ويرعاه , وكثير ممن ينفق النفقات ويبذل الأموال إنما يبذلها للقادرين الذين ينفعونه عند الشدة وعند الحاجة أما الذي يحمل الكل فهو المخلص لله سبحانه وتعالى في عمله, والشهم هذه الصفة تدل على إخلاص الرسول صلى الله عليه وسلم في عمله وأنه يبتغي به وجه الله وعلى صفة الشهامة التي كان يتحلى بها بأبي هو وأمي وصلوات ربي وسلامه عليه ، (وتقري الضيف) عنوان الكرم والجود ,( وتكسب المعدوم) المال المعدوم تكسبه للفقراء والمساكين وهذا دال على الرحمة والشفقة , ثم ذكرت الصفة الجامعة الشاملة :(وتعين على نوائب الحق )تعين غيرك على نوائب الحق, والنوائب جمع نائبة ماينوب وينزل بالناس لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعين على نوائب الحق ولا يعين على نوائب الباطل الذي يعين على نوائب الباطل الذي يريد أن يتظاهر بنفقته وبسخائه أما محمد صلى الله عليه وسلم فكان يعين على نوائب الحق هكذا ، هذه هي صفات محمد صلى الله عليه وسلم وهذه أخلاقه قبل أن يبعثه الله سبحانه وتعالى.

أيها الرجال: هذه الصفات ينبغي لنا أن نتصف بها وأن نتخلق بها وأن نقتدي فيها بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم .

وأما خديجة رضي الله عنها فهي مثال للنساء المرأة الصالحة المرأة المؤمنة المرأة التي تقف بجانب زوجها عند الشدة والمحنة المرأة التي تعرف خصال زوجها وصفاته الحسنة التي تستدل بذلك على الخير الذي ينتظره في المستقبل وتشجعه وتشد من أزره هذه هي القدوة خديجة الكبرى رضي الله عنها وأرضاها ولم تكتف بذلك ؛أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن طمأنته وهدأته وأذهبت عنه الروع لتكشف عن حقيقة هذه القصة وهذه الحادثة , لم تذهب به إلى رؤوس المشركين من قومها ,لم تذهب به على عادة العرب إلى كاهن أو عراف؛ لأنها تعرف من حياتها معه أنه لا يحب هذه الأصناف ؛ حيث مكثت معه حياة طويلة تعرف معه ومن خلال ذلك أنه لا يحب الشرك ولا المشركين ولا الكهنة ولا السحرة ولا العرافين كان متصلا بالسماء صلوات ربي وسلامه عليه , فذهبت به إلى من كان متصلا بالسماء وبكتب السماء , ذهبت به إلى ورقة بن نوفل ابن عمها مباشرة ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى وكان ورقة بن نوفل رحمه الله ورضي الله عنه ممن طلب الحق في الجاهلية ترك الوثنية والشرك والأصنام والأوثان وبحث عن الحق حتى وجد بعض بقايا أهل الكتاب ممن يتبع عيسى وتنصر في الجاهلية وتعلم العبرانية وقرأ التوراة والإنجيل ، وذهبت إليه وقرأت عليه القصة وقالت له :اسمع من ابن أخيك “ابن أخيه في الدرجة والإحترام وليس بالنسب” فقال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم :(يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ورقة الخبر فقال ورقة بن نوفل : إنه الناموس الذي نزل الله على موسى ) الناموس أي : صاحب السر الذي نزل الله على موسى يعني جبريل عليه السلام , هذا جبريل هذه صفات جبريل وهذه صفات النبوة وهذا دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , ثم قال ورقة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم :( ياليتني فيها جذع ) وفي رواية( جذعا ) ياليتني فيها : أي في دعوتك جذع شاب , كم تمنى أن يدرك رسولا من الرسل ونبيا من الأنبياء وهاهو ذا يدركه في آخر عمره ( ياليتني فيها جذع إذ يخرجك قومك ) ليتني أدركك حين يخرجك قومك أو يوم يخرجك قومك فاستغرب النبي صلى الله عليه وسلم وتعجب ( أومخرجي هم؟ ) ليس بيني وبين قومي شي أنا من أهل النسب والحسب ومن أهل الأخلاق الكريمة ليس بيني وبين قومي شي (أومخرجي هم؟ ) فقال ورقة :( لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا أخرجه قومه ولئن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ) لم يأت رجل بهذا الذي ستأتي به من الدعوة إلى توحيد الله والخضوع لله وحده والتعبد لله وحده إلا أخرجه قومه الطغاة والجبابرة ورؤوس الكفر والملأ الذين يريدون أن يعبدوا الناس لأنفسهم ولما يصنعون من الأوثان وليخضعوا الناس لإرائهم وأفكارهم القذرة , يقفون أمام الدعوة إلى الحق .. إلى التوحيد وإلى الطاعة لله وحده , وتمنى ورقة أن يدرك ذلك اليوم فيآزر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ولكنه ما نشب أن مات ورقة وفتر الوحي أي انقطع الوحي بعد تلك الحادثة ، قلت ما سمعتم واستغفروا الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانيــــة                    

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

أيها المسلمون عباد الله فتر الوحي بعد نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء قال بعض أهل العلم:( كان فترة الوحي ثلاث سنوات ) وقال آخرون:(لم تكن إلا أياما) وهو الذي رجحه الإمام ابن حجر العسقلاني عليه رحمة الله ــ وهو المحقق ــ (فتر الوحي) ثم في أثناء فترة الوحي وبعد أن قضت تلك الفترة رجع جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وكان أول ذلك ما حدّث به جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي (بين أنا أمشي ) يمشي في الجبال رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خلوته ورجع إلى عادته وتشوف وتشوق إلى لقاء جبريل بعد أن ذهب عنه الروع والخوف وبعد أن عرف الحقيقة من ورقة قال:( بين أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه ) مرة أخرى يرعب النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الصورة , الملك (جالس على كرسي بين السماء والأرض) وهذا شي جديد عليه قال:(فرعبت منه فذهبت إلى خديجة فقلت زملوني زملوني فأنزل الله تعالى (يا أيها المدثر *قم فأنذر *وثيابك فطهر* والرجز فاهجر* ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر )) فكان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وهذه الآيات رسولا مبعوثا إلى أمته (قم) دع النوم والدعة فقد مضى وقتها( فأنذر) أمر بالإنذار وبهذه الكلمة بعث محمد صلى الله عليه وسلم وصار نذيرا من النذر ورسولا من الرسل, ثم علمه الله في هذه الآيات أعظم المبادئ التي ينذر بها ( وربك فكبر ) أي عظمه بالتوحيد (وثيابك فطهر ) والثياب تذكر وتقال عن النفس “الثياب الباطنة ” وتطلق على الثياب الظاهرة والمعنى زك نفسك وطهرها وطهر ثيابك( والرجز فاهجر) اهجر الأصنام والأوثان , فأمره الله عز وجل بعبادته وحده وتعظيمه وحده , وأمره أن يزكي نفسه وثيابه , وأمره سبحانه بأن يترك الشرك والجاهلية ثم أمره بالجد في العمل وترك المن به والصبر في مقام الدعوة (ولا تمنن تستكثر) لا تستكثر عملك من أجل هذا الدين تمنن به على الله ( ولربك فاصبر) فالدعوة تحتاج إلى صبر عظيم .

تلك كانت الآيات التي أرسل بها محمد صلى الله عليه وسلم وذلك كان مبدأ الوحي مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ثم تتابع الوحي بعد ذلك وجاء النور ليضيء لنا وليضيء للعالمين بمحمد صلوات ربي وسلامه عليه .                                                                          وصلوا وسلم على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال :(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك حي سميع مجيب الدعوات ،اللهم انصر الإسلام والمسلمين اللهم انصر فيمن نصره نصر للإسلام والمسلمين اللهم رحماك بالمستضعفين من المسلمين في كل مكان , اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمعلمينا ولمن له حق علينا يا أرحم الراحمين ،ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العلي العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون.

 

لتحميل الخطبة من هنا

زر الذهاب إلى الأعلى